النقد وشواغله الخفية

قيس مجيد المولى

كان النقد الأدبي يسير باتجاهات مختلفة، أي بمفهوم رؤية النقد للجمال، وهذا لا ينطبق على الشعر فقط بل انطبق على معظم الفنون الأخرى حيث اعتبر البعض من النقاد أن الأدب “عناية فائقة في التنفيذ”، ومنهم من رأى ضرورة أن يكون الشكل له الأولوية في تقييم المنجز، وهناك من قَسمَ الجمال إلى المفيد وغير المفيد، وأستُغِلَ النقد من البعض لتفسير التاريخ الشعري، كما فعل جوتيه في دراساته عن الشعر الفرنسي، وأستوعب بعض الشيء عن دراساته لبودلير للوصول إلى شيء ما من عمق بودلير الإستراتيجي، وهناك من أفرط في القسوة في تناول جيله أو الأجيال التي سبقت، وهناك من تعاطف حد التسامح مع الأخطاء أو بالأحرى مع النظرة إلى اللغة ووظيفتها وأستشعار قواها الروحية.

ففي النقد الفرنسي على سبيل المثال قدم سانت – بوف شكله التنظيري للشعر الفرنسي وكذلك الشعر الإنكليزي، وكتب عن العبقرية وعن الإلهام، وما هو الجوهري وغير الجوهري واستخلص من خلال نقده لبودلير السعي الذي يشتغل عليه بعض الشعراء نحو المحرك المجهول.

ولم يكن نقد سانت – بوف منفصلا عن افكار لوسون أو أفكار ياسيرز أو ما أتى به يونج في علم النفس، فالشاعر في عرفه ليس بسيطا فهو من خلال خاصيته يبلغ الأشياء الفريدة في ذروة اتقاده الروحي والنفسي، وهنا نجد كم اتسع مجال الفردية وكم أخذت الأنا حصتها، وكم تقدمت لفرض وجودها على الموجودات الأخرى التي كانت عصب الشاعر في حراكه ضمن التفاصيل العينية، والتي تبدو نهائية عند إستخدامها وكأنها غير صالحة إلا لمرة واحدة فقط.

ولا شك أن التداخل اللغوي في بعض الأقطار الأوروبية كان إحدى المشكلات التي نظر إليها النقد بإمعان خاصة ذلك الإزدواج بين الاستخدامين اللاتيني والفرنسي من قبل الشعراء الفرنسيين أبان عصر النهضة.

وعلى العموم كانت الأسباب التي قدمها المفكرون والنقاد كفيلة بسيادة اللغة الفرنسية على اللغة اللاتينية، ومن هذه الأسباب ما كان متعلقا بالمكانية والتأهيلية والاصطلاحية وهذه الأسباب أيضا لم تركن كأسباب أبدية لجودة لغة على أخرى، إنما كانت دعوات النقاد والشعراء المحدثيين تتعالى لخلق استخدامات جديدة من اللغة والعمل على اشتقاق مفردات غير مستخدمة والبحث عما يتلاءم مع الحس النغمي وتثوير المفردات الدارجة.

لقد وضِعَ الفن ووضعت الحياة أمام مشرحة النقاد فأُعطيَ للرمز أهميته في المنتج الشعري وقدمت الفلسفة جهدا خلاقا للشعر حين عززت المفاهيم نحو الحواس والمشاعر والشواغل الخفية التي تشغل الإنسان بهوسه فاندمجت الفلسفة في الشعر لتدفع بالتخيل إلى مديات أبعد وتعطي الشعر حريته في قبول الذي كان لا يقبل ضمن الرؤيا التي كثف الشعر اشتغاله عليها في الأساطير والملامح والأوهام.

بدأ النقد في نسف ما كان بائدا وسطحيا في الماضي والذي كاِن يؤمن بالمظهرية وارتداء الأقنعة، وبدأ بالتفريق بين الإنسان الذي وصف بالآلي ضمن حركة النص وبين الإنسان الهلامي ضمن حاجات النص لمساره وخطوطه ولغته ومدياته وانتقالاته المكثفة ووراء ذلك تقف القصيدة الطويلة ذات التأثير الفريد في رؤية الناقد، وكذلك المتلقي، فتلك القصائد بالرغم من حشدها الغرائبي، فإنها كانت سلسلة من التأملات والاندفاعات التي تلج بها المعاني، وما الفردوس المفقود إلا واحدة من تلك الشواهد حيث أتت بشكل آخر وبجوهر جديد في كشف الرغبات والصراعات ما بين قوى الطبيعة والإنسان حين هيمن التتابع المنطقي والاشتغال الفائض للحواس على مجريات الحدث بدون معاينة وتقنين لأي من أشكال الإندماجات التي تحدث في عملية الإسترسال الشعري،

قدم النقد يقينه من أن الشاعرَ معادلا أكيدا لما في الكون نفسه وأنه جزءٌ عضوي ومحركٌ للحياة وقوانينها أمام المحسوسات، وبأنه – أي الشاعر – لن يكون نتيجة بل هو أحد الأسباب المتواصلة التي تصنع النتائج.

شاهد أيضاً

حوارٌ فاضح

الاء الصوفي اعذرني على ما فعلت ….لم تكن في خاطري أذيتك….لم أعد كسابق عهدي ،تغيرت …

error: Content is protected !!