من الإشراقات الشّعرية الى الإشراقات الفكرية

قيس مجيد المولى

لا شك أن رواد الحداثة المبكرة في العراق قد رسموا اتجاهاتهم الشعرية الخاصة بهم، بعد أن انتقلوا من شكل الشعر القديم إلى الشكل الجديد المتحرر، ولا شك أن هناك مؤثرات اجتماعية قد لونت الإتجاهات الحديثة لدى المحدثين العراقيين.

ولا شك أيضا أن تأثير بعض الشعراء الأوروبيين قد مهدت لتلاقي الهم الإنساني المشترك ما بين الطرفين، وكأنهما يسعيان للوصول إلى المنافذ الكامنة في أي شكل من أشكال الميثولوجيا، وسرعان ما تم الانتقال الى مرحلة شعرية على مستوى المضمون أكثر نضجا وأعمق في الرؤية والانتقال من التماس الفيزيائي إلى الداخل الوجداني بتكثيف الرمز والدلالة الغيبية والانسحاب الجزئي من الوصف المباشر في معنى خلاصي جديد للهروب من الألوهية التي تندس بين صورهم الشعرية التي ظلت تحت رحمة القضاء والقدر. أي الرضا المطلق بالمصير وان هذا الوصف واضحا لدى رواد الحداثة في العراق الذي انصب بهذا المنحى على أقل تقدير في مرحلتهم الأولية، وقد يكون ذلك كشفا للقلق، ولكنه كشف سطحي، وهذا ما يدعو لأن نعتقد أن الشعر في تلك المرحلة رغم دعوته إلى ترتيب جديد للعالم لكنه لم ينجز عملية الانتقال إلى خلق رؤى شعرية أكثر تطورا من الرؤى الشعرية المتطورة ضمن تلك المرحلة والتي اشتغلوا عليها لمسافة طويلة من الزمن.

ورغم جمالية ودقة التصوير في “المومس العمياء” و”حفار القبور” وحتى “غريب على الخليج” لدى السياب تجد تلك الصلة الدينية هي المنفذ الوحيد للخلاص بل ولتقديم الشكر إزاء أي بلاء وتقديس قوانين الوجود.

إن استكمال شروط الحداثة في العراق قد تلاقت مع التوجهات الشعرية الجديدة لدى مؤسسي “شعر”، وبالتالي أخذت وتيرة العمق الفلسفي والنظرة الى الكون من داخل الموجودات الكونية وليس من خارجها تعمل عملها في تأجيج النزاع النفسي وفي استخلاص الصور المركبة التي تعكس صورا مجسمة تتضاد بدالاتها وتعني بأزدواجها بأن وظيفة الشعر ليست مساعدة الإنسان كي يرضى، وإنما مساعدته على تعليمه كيف يكون خارج ما يُرضي ليكون قلقه دائما ومنيرا وبذلك فهو يجد لذاته متطلبات فردانيتها التي تعني وجودها الحقيقي الذي تتصارع معه لتنتصر عليه وينتصر عليها، وهذا الجدل وهو جدل الـــ (لماذا) وهو جدل الــ (الكيف) أدام دوي المعاني التراجيدية للوصول الى الألغاز المحيرة ووقوف الإنسان بطلا تجاهها بعد أن صُوِّرَ في المرحلة الأولى من الحداثة أسيراً طالباً رحمة السّماء.

كشف بيان يوسف الخال تلك المطبات الكثيرة في الشعر التقليدي، كشف أن انشطار الشاعر القديم واتجاهه لوحدة واحدة في التعبير، أما التحكم العقلي أو تجده ضمن مديات التحكم العاطفي المطلق وكشف بيانه عن الكم الهائل من المفردات والتعابير التي لم تعد تلبي حاجات ومتطلبات الضرورات الشعرية وطالب بنسف الأوزان واعتبرها ليست بذات قداسة، وطالب بتقييم التراث وقطعا بعدم تقديسه، أو على أقل تقدير ليس كل التراث مقدسا.

وقطعا أشار البيان بضرورة الاطلاع على التجارب الشعرية العالمية والانفتاح تجاه المفاهيم والنظريات الأدبية وجعل الإنسان المحور الرئيس الذي تدور حوله حركة الشعر الجديد بشكل يفعل دورا لا متلقيا سلبيا وإنما مشاركا في العملية الشعرية.

لا شك أن هذه المبادئ مبادئ الخال رغم أهميتها، كونها شكلت إنتقالة مهمة في نظرية الشعر الحديث لكنها أيضا لم تكن مقدسة لدى البعض من تجمع شعر كمؤسسين ومساندين وأصدقاء، لكنها أخذت طريقها كمبادئ أولية للتأسيس تساير التجربة ويمكن إغناء هذه المبادئ عبر الآراء والحوارات الشفاهية التي كانت تُطرح في ندوة (خميس / شعر) أو من خلال ما جاد به النقاد حول التجربة الشعرية الجديدة ومرتكزاتها التنظيرية.

وقطعا وبعد فترة وجيزة حدث المتوقع حين دعا يوسف الخال بأن الاهتمامات القادمة ستولج أبعادا أخرى خارج مفهوم الشعر نظما ومن خلال أمسية الخميس امتدت حوارات الإشراقات الشعرية الى الإشراقات الفكرية والفلسفية وشمل في البعض منها التشكيل والمسرح وعلاقتهما بالشعر وأهمية النظريات الأدبية والفكرية في الغرب وتأثيرها على النشاط العقلي للفكر العربي.

ولعل جماعة شعر ومن خلال هذا الانفتاح تريد أن تصل بالشعر العربي الجديد الى مقاربات الحداثة الأوروبية وبأن الحضارة إن ازدهرت هنا أو هناك في فترة سابقة أو في مرحلة لاحقة إنما قد نهضت من نتاج إنساني آخر أو من مساهمة غير محسوسسة لأمم أخرى.

شاهد أيضاً

حوارٌ فاضح

الاء الصوفي اعذرني على ما فعلت ….لم تكن في خاطري أذيتك….لم أعد كسابق عهدي ،تغيرت …

error: Content is protected !!