ولادة الحداثة الروائية في العالم

عواد علي

عندما عاينت الروائية الإنكليزية فرجينيا وولف فيض الحقائق اليومية في الروايات التقليدية السائدة في عصرها، ودعت رفقاءها الروائيين لجعل الأشياء أكثر ملامسة للأساسيات الحياتية، كانت تأمل أن تكون الرواية الحديثة أكثر تناغما مع التجربة الإنسانية. وينبغي لهذا الأمل أن يكون أكثر قوّة في أيامنا هذه، حيث غدت المعلومات التي تطرق رؤوسنا كلّ حين فيضانا عارما لاحدود لطغيانه.

في تقديمها للطبعة الثانية من كتاب “تطوّر الرواية الحديثة” لجيسي ماتز، الصادرة عن دار المدى، تقول مترجمته الروائية العراقية لطفية الدليمي إن هذا الكتاب يعدّ مرجعا ممتازا، بين بضعة مراجع أخرى، في دراسة الرواية الحديثة على صعيد النشأة والتاريخ والمآلات اللاحقة، فهو يتناول جوانب من نظرية الرواية الحديثة وفلسفتها ومآلاتها وموقعها في العالم المعاصر. ومن هنا تنبع أهميته لكلّ المشتغلين في حقل الرواية والدراسات السردية بعامة، سواء كانوا متخصّصين أم قرّاء شغوفين.

تفتتح المترجمة تقديمها للطبعة الأولى بمادة عنوانها “لماذا الرواية؟” بيّنت فيها العوامل التي تجعل الفنّ الروائي يحوز على تلك المكانة التي يتفوّق بها على كلّ الأشكال السردية الأخرى (سواء كانت مكتوبة أم مرئية). ويلاحظ القارئ منذ البدء أن هذه المسوّغات التي أوضحتها المترجمة بدقة لا تنتمي إلى تلك المسوّغات التقليدية المتداولة التي طالما قرأناها من قبل.

وتمضي المترجمة في تقديمها الثري، فتكتب عن موضوعة “الرواية وثورات الحداثة”، مركزة على ست من الثورات التي أثّرت في هيكلة الحداثة الروائية: الثورة الفيزيائية، الثورة التقنية، الثورة الفلسفية، الثورة الاجتماعية، الثورة السايكولوجية، والثورة الليبرالية، ثم تكتب عن الأشكال الروائية التي توالدت من الرواية الحديثة، أو ساعدت على ظهورها، وهي: الرواية ما بعد الحداثية، الرواية ما بعد الكولونيالية، رواية التعددية الثقافية (بكلّ أشكالها النوعية المتمايزة)، والرواية الرقمية.

وتتناول المترجمة بعد ذلك موضوعة “الرواية الحديثة ونظرية موت الرواية”، وتشير إلى أربعة مسوّغات تعدّ أسبابا داعمة للحفاظ على حيوية الفنّ الروائي وضرورته اللازمة في عصرنا هذا (ولعقود طويلة لاحقة)، ثمّ تتساءل “هل انتهى عصر الرواية الحديثة؟”، وتقدّم في معرض الإجابة عن هذا التساؤل مادة مهمّة يمكن إدراجها تحت عنوان “مستقبل الرواية الحديثة”، ذلك العنوان الذي تناوله مؤلّف الكتاب بالدراسة المسهبة في القسم الثاني من الفصل الأخير في الكتاب.

يمتاز هذا الكتاب بميزة فريدة- إضافة إلى مزايا كثيرة فيه- هي كونه لم يكتف بالاشتغال على الرواية الحديثة- كما يوحي بذلك عنوانه- بل تناول في الفصل السابع المعنون بـ “التجديدات ما بعد الحداثية” مدخلا موجزا لرواية ما بعد الحداثة

يناقش المؤلّف في مقدمته للكتاب موضوع الحداثة الروائية من حيث تاريخ اعتمادها في ميدان الفن الروائي، ثمّ من جهة طبيعتها والسمات التي وسمت كتابات الروائيين الحداثيين بخصائصها المميزة. وقد سلك في مناقشته مقاربة ممتعة ورصينة في الوقت ذاته باعتماده مؤشرات تطبيقية في الحداثة الروائية كما نشهدها في أعمال روائيين حداثيين طلائعيين مثل: جيمس جويس، غيرترود شتاين، فرجينيا وولف، جين توومر، ثم في أعمال روائيين حداثيين لاحقين لهم.

ويمكن للقارئ في هذه المقدمة متابعة الكيفية التي يوضّح بها المؤلف طريقة هيكلة تعريف الحداثة الروائية شيئا فشيئا حتى باتت تعني القدرة على التعامل مع المعضلات والإمكانيّات الملازمة للحداثة- الأعاجيب التقنيّة، الفوضى الاجتماعيّة، الأحجيات السايكولوجيّة، نمط التغيّر- وجَعْل تلك الموضوعات المادّة الأساسيّة والأثيرة التي تستمد منها الرواية تحدياتها وإلهامها.

كما تعني الحداثة الروائية مواجهة الحداثة بأشكال تجريبية غير مطروقة في الكتابة، وتجنحُ الرواية الحديثة لفعل ذلك وهي مسكونة بقناعة راسخة بأنّ الأشكال الجمالية يمكنها إحداث فرق جوهري في الطريقة التي يرى بها الناس، ويفكرون، ويعيشون، وربما عنى هذا شيئا يبدو قديما إلى حد يبعث على التناقض، شيئا بدأ قبل مائتي سنة تقريبا (عندما راحت الحداثة تبدو للمرّة الأولى كمعضلة عظيمة الطغيان)، ثمّ حلت الذروة الحداثيّة عام 1922 مع نشر “يوليسيس” لجيمس جويس مترافقة مع الفتوحات الحداثية الأخرى، ثمّ آذنت الحداثة الروائيّة بختام بعدما بدا أنّ المثالية الجمالية لم تعد تناسب حداثة حياة ما بعد الحرب، لكن لن تعدم الرواية الحديثة ما تجود به دوما، فكما سنرى لاحقا يمكن للرواية، في جميع الأوقات، أن تكون متّسمة بالحداثة، أو في أقلّ تقدير يمكن لأشكال الرواية الحديثة- ولو تقادمت- أن تكون مصدر حيويّة مدهشة لثقافتنا الراهنة.

يبدأ جيسي ماتز كتابه بفصل عنوانه “متى ولماذا: نشأة الرواية الحديثة” يبحث فيه تفاصيل بشأن نشأة الرواية الحديثة والآباء المؤسسين لها، خاصة في بواكير عام 1914 عند بداية الحرب العالمية الأولى، ثمّ يفرِد قسما مهما من هذا الفصل لسبعة من الروائيين الحداثيين، منهم: فرجينيا وولف، فورد مادوكس فورد، ويلا كاثر، ودي. إج. لورنس. ويتناول بالإشارة المقتضبة عملا حداثيا مميزا لكلّ من هؤلاء الروائيين.

أما في الفصل الثاني الموسوم بـ”ماهو الواقع؟: الأسئلة الجديدة”، وهو أحد الفصول التي قلّما نجد مثيلا لها في الكتب المترجمة الخاصة بفن الرواية، فيتناول فيه المؤلف مساءلة مفهوم الواقع، والأسئلة الجديدة التي نشأت بفعل هذه المساءلة، والمترتبات التي انعكست عنها في ميدان التناول الروائي. ولا يخفى بالطبع أنّ هذه المساءلة هي انعكاس مباشر لنهضة الفلسفة التحليلية، وسعيها إلى أن تكون فلسفة العلم عن طريق زلزلة القناعة بالمواضعات الراكدة للمفاهيم الأساسية التي تشكّل هيكل الوعي البشري. ولا يفوت المؤلف التأكيد أنّ الرواية الحديثة كانت بالغة الحساسية في تلمّس تأثيرات هذه الفلسفة واحتوائها في الحداثة الروائية.

يدرس المؤلف في الفصل الثالث المعنون بـ”الأشكال الجديدة: إعادة تشكيل الرواية”، ومن خلال أمثلة تطبيقية لأعمال روائية حداثية مؤثرة، الكيفية التي انعكست بها الحداثة الطاغية في ميدان الفن الروائي، والأشكال السردية التي تمّ توظيفها بقصد احتواء مفاعيل هذه التأثيرات الحداثية. أما في الفصل الرابع، الذي يحمل عنوان “المعضلات الجديدة”، فيسائل طائفة من المعضلات الروائية المستجدّة التي جاءت مع عصر الحداثة على صعيدي الموضوعات والتقنيات الروائية في سياق المقارنة مع رواية ما قبل الحداثة.

ويفرد المؤلف الفصل الخامس المعنون بـ”حول العالم الواقعي: السياسة” لمناقشة التأثيرات السياسية- والدنيوية على نحو عام- في الفنّ الروائي، خاصة في الفترة المحصورة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد فعلت هذه التأثيرات فعلها في الروائيين الحداثيين، ودفعتهم إلى اعتماد تعديلات محددة في طريقة تناولهم الروائي، ومساءلة الحداثة وإحداث تعديلات مؤثرة فيها، وبالكيفية التي قادت إلى عصر ما بعد الحداثة والرواية المعاصرة لاحقا. ونقرأ عن هذه الموضوعات في الفصل السادس الذي عنونه المؤلف بـ”مساءلة الحداثة: مراجعات منتصف القرن”.

يمتاز هذا الكتاب بميزة فريدة- إضافة إلى مزايا كثيرة فيه- هي كونه لم يكتف بالاشتغال على الرواية الحديثة- كما يوحي بذلك عنوانه- بل تناول في الفصل السابع المعنون بـ”التجديدات ما بعد الحداثية” مدخلا موجزا لرواية ما بعد الحداثة. كما وضع مؤلفه في الفصل الثامن المعنون بـ”الحداثة ما بعد الكولونيالية” مقدّمة موجزة للرواية ما بعد الكولونياليّة، وقف فيها على التأثيرات الحداثية في كلّ من الرواية ما بعد الحداثية والرواية ما بعد الكولونيالية، من خلال عدد من الروايات المتميزة. ويختتم المؤلف كتابه بفصل مخصّص للاستنتاجات، وإلقاء الضوء على مستقبل الرواية الحديثة.

يضمّ الملحق الأول في الكتاب النصّ الإنكليزي الكامل، مع الترجمة، للمقالة التاريخية المهمّة لفرجينيا وولف الموسومة بـ”الرواية الحديثة”، التي نشرتها في بداية ثلاثينات القرن العشرين. ويحتوي الملحق الثاني على ثبت تعريفي بمعظم الأسماء الروائية والثقافية التي مرّ ذكرها في الكتاب.

أما الملحق الثالث فيضمّ ثبتا تعريفيا بقائمة كاملة من المصطلحات الفنية التي غالبا ما يمرّ بها القارئ للأعمال التي تتناول مبحث الرواية. ويتضمن الملحق الرابع قائمة طويلة من المؤلفات التي رأت فيها المترجمة لطفية الدليمي أعمالا في غاية الأهمية لمن آنس في نفسه الرغبة في الاستزادة من القراءة والبحث في حقل الرواية الحديثة، والفن الروائي على نحو عام.

ويُختتم الكتاب بفهرس طويل من إعداد المترجمة اجتهدت فيه ليكون بمثابة معجم للمصطلحات، ودليلا لحشد من الأعمال الروائية، وأسماء الروائيين التي يعجّ بها الكتاب.

شاهد أيضاً

حوارٌ فاضح

الاء الصوفي اعذرني على ما فعلت ….لم تكن في خاطري أذيتك….لم أعد كسابق عهدي ،تغيرت …

error: Content is protected !!