أقصى الجنوب وأقصى الحزن فـي “بيت التراب”

د. إشراق سامي
لطالما كنت مأخوذة بالتقاطات نهى الصراف الإنسانية، إنها من النوع الذي يستطيع أن ينقل نظرك إلى حيث الزاوية المنسية في الصورة، زاوية خالية من اللون، لكن في تفاصيلها يسكن قدر إنساني ممزوج بفلسفة الحياة التي لاتبالي كثيراً بالوقوف على تلك الزوايا.
في مجموعتها القصصية “بيت التراب”، تحط تلك الزوايا أمام ناظريك بصورة عريضة ومكبرة في تفاصيل القصص العابرة للمنسيين في هذه البقعة من الأرض، مدينة البصرة، المحافظة الجنوبية للعراق؛ أقصى جنوبه وأقصى حزنه. القصص التي تدور في درابين ومحلات هذه المدينة، تختار زمن الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الخليج الأولى، كما يسميها بعض من يختص بالتحليل السياسي، مسرحاً لأحداثها. حرب تركت ندوباً بالغة العمق على أهل المدينة وروحها؛ المدينة الساحلية المعروفة بالسماحة والكرم، لتتحول في بحثها بين ثنائيات كالموت والحياة/ والقبح والجمال/ الثقافة والجهل، الى متاهة صبر وحزن.
تكتب نهى عن الحرب بلغة المتأمل عن بعد. لاشك أن ارتباط الكاتبة بهذا المكان يشي بسر الحساسية العالية التي تطوق الشخصية والحدث والزمن، هذه المسافة بين تراجيديا القصف العشوائي للمدينة وبين زمن كتابة القصص هو ما أجزم إنه منحها هذا البعد الإنساني العميق، وهي قصص قادرة إذا ما تحولت الى لغة ثانية أن تنقل معى الإنسان وتترجم إحساسه.
تراوح القاصة في لغتها بين مستويين؛ الأول هو مستوى الحبكة التي تحتاج إلى تسلسل الزمن ورسم الأحداث وتحديد أطر الشخصيات بلغة وأسلوب واقعي، أما المستوى الثاني وهو الأكثر سحراً فيتلخص في قدرتها على السخرية المرّة أو إثارة ماهو موجع بطريقة فنتازية، ربما أبصرتها على أشدها في قصة “من يجمع القمامة في العيد” عن توفيق الزبال، حيث يتداخل ماهو تراجيدي جداً ومصاغ بطريقة تبدو كمزحة وبين ماهو بسيط جداً ومكتوب بلغة عابقة بالحزن الوجودي.
في كتابه الصوت المنفرد، يتحدث القاص والناقد الدنماركي فرانك أونكر عن ميزة القصة باعتبارها وسيلة حيوية ودائمة التدفق لتصوير عالم “الجماعات المغمورة” كما يسميها.
في مجموعة نهى الصراف، فتحت النوافذ على أقصاها للنظر إلى تلك الجماعات ومتابعة حكاياتهم بكثير من الاعتدال اللغوي والحيوية، وبمعنى أدق، ابتعدت عن فخ الدخول في المبالغات العاطفية واللغة البكائية وهي تلتقط تلك القصص من فم واقع مؤلم، لتعيد تلاوتها بحنو وروية وقدرة على إقامة المشهد المتماسك نفسياً مع الحدث والشخصيات.
في قصة “حصالة نقود بثقب واحد” ترسم الكاتبة شخصية “حمودي الأعور” بكثير من الفنتازيا، فهذا الشخص الذي تعرض الى خطأ في التوليد على يد قابلة المنطقة “أم كَاطع” فقد إحدى عينيه أيضاً فتحول الى كائن قميء فاقد للأهلية لأن يكون إنساناً متعلماً أو متحضراً، لكن هذا الحمودي يشبه العراق الذي ولد بخطأ ما وأفقده القدر بصره أو بصيرته حيث تتناوب الأزمان على دكاكينه؛ يبيع النعوش في أوقات الحروب ليغير مهنته في فترة قصيرة إلى الأبواق والمزمامير وأدوات الموسيقى اللازمة للأعراس، ثم يعود الى تجارة التوابيت مرة أخرى لندرك بأن الموت وحده يملك سمة الثبات في هذه الأرض، التي تمتلىء بالأحلام المدفونة تماماً كما تمتلىء بتجار الحروب وتجار القبح والخراب.
في قصة “لوحة باهتة لسماء بعيدة”، تثبيت أكثر عمقاً للمغمورين من البشر ضمن أقدار لم يكن لهم فيها تدخل أو أثر، فالصدفة وحدها تصنع أقدارهم تلك الصدف المبكية-المضحكة التي تتلاعب بمصائر البشر الذي يتقنون تماماً العيش على هامش الحياة والتفرج عليها من بعد؛ سعدون الصبي المشاكس المتصابي الذي يحلو له اللهو كما يحلو لأمه أن تدعو له بالهداية، تقوده الصدفة إلى حفرة لتصفية من تغضب عليهم السلطة، خطأ يكاد لايعبأ له في البداية، يقتاده ضمن مجموعة تقرر الحكومة إعدامها بالرصاص في إحدى حفر الموت اليومي والصدفة أيضاً من جعلته يتضرج بدماء الآخرين ويبدو كالميت، فيما يتسحب مع أنفاسه المذعوره ليعود الى بيته فجراً كعادته يلتصق بفراشه وينام بينما تكمل أمه دعواتها له بالهداية ! أي مأساة ساخرة هذه؟
أما “غرفة انتظار بوشاح أصفر”، فهي اختصار موجز لما مرت به النساء في ذلك الوقت بالذات، في أوان الذهاب إلى الموت أو الأسر أو رحيل الرجال إلى حيث لايعلمن، وفي البحث عنهم أو انتظار قدومهم تتكسر في صدورهن الحياة وتبهت شيئاً فشيئاً.
لا أدري لم أحسست بأن القطار هنا، وهو مكان القصة، يحيل إلى دلالته المتداولة شعبياً مع المرأة؛ فالشابة التي تفر من جحيم البصرة في القطار الصاعد الى بغداد وتصاحب أمها المتعبة المريضة، تجلس على كرسي واحد وبالصدفة بلع الفراغ مكان الكرسي المصاحب له، في أثناء الرحلة يصعد شاب عسكري في هذا القطار يتبادلان النظرات.. يبحثان عن الضوء والحياة لكن بدون جدوى، حيث تنتهي الرحلة باختفاء الرجل وموت الأم.
في “رسائل الرفيق عبد الأمير” تقربنا الكاتبة من عوالم طفلة نازحة من شبه جزيرة الفاو، استقرت في طابق المدرسة العلوي فيما واصلت دراستها في طابق المدرسة الاول.
يعلم سكان هذه المدينة “البصرة” تمام العلم ما الذي يعنيه سكنة المدارس، هؤلاء القادمون من أقصى الجنوب على الجدار المحاذي للبحر حيث البساتين الظليلة والهدوء الأخاذ، الذي تحول في لحظة الى جحيم مثلما تحول سكان تلك الأرض الساحرة الى هاربين ونازحين، يتاجر بثقل حاجتهم الحمقى من مخبري الحزب.
أما “جنان عبد الحسين” وهو اسم الطفلة القادمة من الفاو، فتوقظ كل الأسئلة التي نامت بفعل الزمن وبفعل تلاحق الرزايا.. الأسئلة عن من هو المسؤول عن مصادرة حيوات كل هؤلاء البشر.
أكثر ما شدني لهذه القصص هو أنها تتحدث عن الحرب في الثمانينيات وأثرها على المدنيين في البصرة، ولأننا في العادة بذاكرة مثقوبة ننسى أن نتعلم من تلك الأيام الصعبة التي مرت بنا.
على الرغم من أن السرد العراقي بشكل خاص بعد العام 2003 اتخذ من الأحداث الدامية الحاضرة مادة لحكاياته، إلا أن الميزة التي تحسب لنهى هنا هو أن هذه الكتابة جاءت بعد مايقترب من الثلاثين عاماً على تلك الحرب، فضلاً عن تركيزها على معاناة الإنسان فيها ومس خواصر الألم برقة متناهية.

شاهد أيضاً

العراق يجذب السياح الدوليين.. كيف وجدوا “مهد الحضارة”؟

عندما جلس تومي دريسكيل، وهو صانع محتوى على منصة “يوتيوب” من هاواي، لتناول وجبة فطور …

error: Content is protected !!