“الكلاب”.. يسائل الماضي ويقع في أسره

صوتها – بغداد

قبل عام من انقلاب دبّرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية ونفذه الجنرال أوغستو بينوشيه ضد الزعيم الاشتراكي التشيلي سلفادور أليندي، ولدت في مدينة سانتياغو الطفلة مارسيلا سعيد التي ستحلو لها العودة إلى تاريخ لا تراه مجرد ماض.

ومن حسن حظ مخرجة الفيلم التشيلي “الكلاب”، مارسيلا سعيد، أنها لم تقرأ بدايات الشاعر المصري أمل دنقل، قصائده التي لم يتضمنها ديوانه الأول “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” عام 1969، ثم نشرها أخوه أنس دنقل عام 2014، وفي إحدى هذه القصائد، وعنوانها “مِن بحري”، يقول “لم يخلق الماضي لنحييه/ لكن لنحكيه”، نصيحة لم تأخذ بها مارسيلا سعيد وهي تشرع في كتابة وإخراج فيلمها “الكلاب”، وفيه لا تعنى بحكي الماضي؛ فلم نر صورة لبينوشيه ولم نسمع له خطبة أو يرد اسمه على لسان أحد.

ولكن شبح الماضي يحاصر بطل الفيلم، المتورّط في ارتكاب جرائم، وظن أنها طويت، ويفاجأ بأنها تحاصره، وهذا الحصار النفسي هنا طبيعي، وقد ينتهي بالسجن أو القصاص الأهلي انتقاما، أما غير المتوقع فهو انجذاب بطلة الفيلم، وهي تقريبا في سن المخرجة، إلى هذا الضابط المتهم الذي تجاوز سن الستين.

لم أشاهد فيلم مارسيلا سعيد الوثائقي “أنا أحب بينوشيه” (2001)، ورأيت في فيلمها الروائي “الكلاب”، الذي نالت عنه جائزة أحسن سيناريو في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير، حيرة وإرباكا، بوقوع بطلته المترفة ماريانا (الممثلة أنتونيا زيجرز)، وهي امرأة في سن الثانية والأربعين، في حب عقيد سابق متهم بالاشتراك في جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان في زمن دكتاتورية بينوشيه.

وتنتمي ماريانا إلى البرجوازية التشيلية، وتتمتع بكافة امتيازات هذه الطبقة العليا، ويتوزّع وقتها بين إدارة معرض فني، والرغبة في علاج الخصوبة لدى طبيب، والتدرّب على ركوب الخيل، هذا المثلث من الانشغالات يقابله مثلث بشري أضلاعه أب ينبذها، وزوج يهملها، ومدربها خوان (الممثل ألفريدو كاسترو).

ولا تبدي ماريانا شكوى أو تذمرا؛ فهي ليست ضعيفة، بل تتمتّع بذكاء عدواني، وتملك القدرة على المبادرة والاقتحام، وفي عينيها تحدٍ تواجه به المحقّق الذي يريد منها معرفة تفاصيل عن ماضي مدربها الغامض خوان، هي لم تكن تعرف عنه شيئا، وبهذه الإشارة التي تعرفها من المحقق، تبدأ أولى المواجهات، وربما الاقتراب

المباشر، مع أحد عصيّ الدكتاتورية وآلاتها القاتلة. وبدلا من نفور ماريانا من خوان، والبحث عن مدرّب آخر أو الاستغناء عن ركوب الخيل ببدائل أخرى للإلهاء، فإنها تميل إليه، ويصير الرجل المخضرم أكثر فتنة، وهي تكتشف موطنا سابقا لقوّته ونفوذه.

وفي المراحل التالية لقبضة بوليسية طالت أكثر ممّا يجب، وفي الفترات الانتقالية عقب الثورات الفاشلة، تؤدي السيولة السياسية والهزات الاقتصادية إلى ارتدادات نفسية تصيب الطبقتين الدنيا والوسطى، إذ تمسّهما الآثار السلبية المباشرة للتغيير، فيشعر البعض بحنين مريض إلى نظام حكم تمنى زواله أو شارك في الثورة ضده. فما الذي جدّ على خوان، الذي كان بالنسبة إلى ماريانا مجرّد مدرّب، فأصبح جاذبا لأنوثتها؟ هل تمرّ بأزمة منتصف العمر وتلتمس مصدرا للقوة؟ أم أنه عمى طبقيّ يتغاضى عن تحقيق العدالة، لأن كوارث الدكتاتورية لم تمسّ المرأة وأسرتها ومصالحها؟ هل هناك مسكوت عنه كتواطؤ للطبقة البرجوازية مع حكم بينوشيه العسكري الانقلابي، وتريد هذه الطبقة استمرار هذا التحالف بمنع أي طرف من الانهيار؟

ما يمكن قوله إن اختصاص المرأة لمتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بهذا الحب يقترب من التشوه العاطفي، وإن السلامة النفسية من أعراض المرض الدكتاتوري ليست أمرا هيّنا أو قرارا يتّخذه المواطن فيعافى مباشرة وينضج إنسانيا.

والضحايا الذين هاجموا خوان، وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم ولذويهم، أكثر صدقا في انفعالاتهم من سلطات رسمية تؤخر إجراءات العدالة، ومن طبقة عليا لا تراهن إلا على القوة، فتوجّه إليها البوصلة، وترتمي في أحضانها لضمان بقاء امتيازاتها.

شاهد أيضاً

برعاية معالي وزير الثقافة والسياحة والاثار وباشراف الوكيل الاقدم للوزارة، دار المأمون للترجمة تعقد مؤتمرها الخامس

كتب / عمار الخالديعدسة / صباح الزبيدي تحت عنوان :(#المأموناشراقةُالعراق على العالم) برعاية معالي وزير …

error: Content is protected !!