“هباشون”.. مسيرة السجناء السياسيين في العراق

عبد الجبار العتابي

صدر للروائي العراقي شوقي كريم حسن روايته التي تحمل عنوان “هباشون” عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق، وتعد الرواية مكملة لسلسلة رواياته السابقة والتي التي حملت عناوين (شروكية، خوشية، وهتلية) واللاحقة منها مثل (نباشون).

تقع الرواية في 224 صفحة من القطع المتوسط، تزين الغلاف لوحة للفنان سالم الدباغ ، ومصطلح (هباشون) يعني الكسب والجمع وأحيانا تعني المحتال، واختلفت المعاني كثيراً حول هذه المفردة (الهبش)، كما يوضح لنا الكاتب ذلك، والرواية بلا فصول ولا فواصل بل يسردها بـ (نَفس) واحد.

يصدم الروائي القارئ في مطلع روايته بـ (تحذير) يقول فيه: “ما يملأ هذه الحياة قد لا يحدث أبداً وقد نرى فيه أكاذيبا لا تمنح النفس الحيوية جدوى الاستمرار.. ولكن ما أنا متأكد منه ان الحياة أمر لا يطاق لمن ليس له في كل لحظة حماس يبهر، ان في اعماقنا التي يبسها ألهم الكثير من الحماس الذي يدفعنا الى ولوج حياة الاكاذيب الجميلة.. بعدها احذر من لعبة الصمت”.

ثم يفاجئ القارئ بمقولة للكاتب الساخر برنارد شو “سواء ولدت مجنونا او على قدر متوسط من العقل، فإن مملكتي ليست في هذا العالم، واني لم احس بالطمأنينة الا في عالم مخيلتي”.

يمكن القول ان اسم الرواية قد يبدو غريبا داخل سياقات الرواية العراقية التي اعتادت مسميات تبتعد كثيرا عن الواقع العراقي، لكن شوقي كريم حسن استطاع ان ينزاح بتلك المسميات باتجاه الفقراء والمهمشين، إذ قدم ثلاثيته التي اسماها (ثلاثية الفقراء) التي ضمت (شروكية) و (خوشية) و(هتلية) والتي اثارت جدلا كبيرا داخل الاوساط الثقافية والاجتماعية لانها تحولت الى سجل تاريخي يمكن من خلاله معرفة سيرة مدينة قدمت تاريخا انسانيا مغايرا وهي مدينة (الثورة) الشهيرة في بغداد، المكتظة بالسكان المهمشين والمزدحمة بحكايات الوجع والحرمان، وها هو اليوم يقدم “هباشون” ليعلن عن عذابات اخرى.

في روايته هذه، باللغة العربية الفصحى، الخالية من اية مفردات عامية، يرسم سيناريو هادئا، يبدؤه بلحظات من التأمل، يريد للقارئ ان يشد الرحال مع الرواية من صفحتها الاولى، يدفع الكثير من الوصف والانثيالات والاسئلة، يرسمها بسلاسة وان كانت تتطلب الاعادة في بعض الاحيان للمسك بخيوط الفهم التي تؤدي الى النسيج الذي يمنح القارئ التأمل ومن ثم المتعة حيث كل شيء يمر بهدوء: الاستدراك والحوارات وإثارة الاسئلة داخل النص ومن ثم يذهب لفتح الابواب لهبوب التفاصيل التي تختزنها الرواية.

الرواية.. تحكي مسيرة السجناء السياسيين داخل اقبية النظام السابق في قسم الاحكام الخاصة، حيث كانت القوى الوطنية تتصارع في ما بينها كما هي تتصارع اليوم، كاشفا عن تلك العلاقات الاجتماعية والسياسية المعقدة التي تنشأ بين الافراد والجماعات نتيجة الاضطراب النفسي والفكري الذي تخلقه الايام حتى يصبح الجزء المهم من حياة المعتقل، موضحا محاولات ادارة السجن في اشاعة الفوضى والاقتتال بين الاطراف المتواجدة، لكنها كثيرا ما تفشل، لتعاود بواسطة وكلائها الطعن بالوجوه التي تراها مهمة حتى يتم تسقيطها.

وعلى الرغم من ان عالم السجون العراقية لم يكتشف بعد لانه يتوافر على اسرار ومخاطر لا يمكن كشفها نتيجة خطورتها وغرابتها معا، الا ان شوقي كريم حاول في (هباشون) الكشف عن بعض الاسرار التي حدثت في المعتقل وخاصة في الاقسام الخاصة بالجرائم الجنائية، حيث يوضح كيف يتحول السجن الى ما يشبه القبائل التي تتصارع وتتقاتل في ما بينها بدعم مباشر وغير مباشر من ادارة السجن التي كانت تسهم في ادخال الحبوب المخدرة شديدة الضرر وتستلم الاتاوات من سجناء عينتهم رؤساء داخل السجن.

الطريف ان شوقي كريم حين نتداول معه الحديث عن روايته هذه يتألم وكأنه يستعرض تفاصيل عناءاته في كتابتها، فيقول بحسرة “هباشو تلك الايام التي اصبحت جزءا من تاريخ منسي. هم ذاتهم اليوم الذين يشيعون الرذيلة والفساد داخل البلاد.. وثمة تطابق واضح في الصراعات السياسية الحاصلة اليوم..”.

ويعلق على الصمت التي واجهناه به “حكاية محزنة توثق لتاريخ قد يستمر طويلا فيقدم فصولا جديدة اكثر ابهارا ودهشة”.

وإذ إنَّ للمشاعر الانسانية حضوراً في الرواية فقد كان للسجين حكايات في لعبة العشق يشرح فيه صدره للبوح بما عاناه وما يعانيه ، ويبدو ان المؤلف يعرف ان في السجن هناك دائما عاشق ينتظر محبوبته ، فهو هنا اشد ألما ومعاناة خاصة ان الحبيبة ترفض زيارته خوفا او اهمالا ، لكن هذا العاشق كان يجهز نفسه في كل مواجهة من اجل استقبال حبيبته لكن ما ان تدخل والدته الممر ويجدها وحيدة حتى ينهار باكيا فتجد له الام اعذارا من انها مريضة او لديها دوام وهكذا استمرت لعبة العشق هذه لسنوات وذات يوم تجرأت الام لتخبر العاشق (حميد) ان الحبيبة قد تزوجت وانجبت ولدين واحد منهم اسمته حميد..، لكن المؤلف ازاء هذا يدفع العاشق هذا الى اتخاذ موقف ومن ثم نهاية مأساوية، فقد ظل حميدا صامتا لايتكلم حتى خروجه من السجن حيث قتل عن طريق الخطأ ايام الاحتلال!!.

ارى من خلال الرواية ومعرفتي بشوقي كريم انه يستعرض الى حد كبير تجربته في السجن الذي دخله عام 1992 ، ينبش اعماقه ليقدم عذاباته هناك ،وما كان يعايش من تجارب للذين معه ،مثلما يستعرض حكايات الذين معه وما كانوا يبثونه من اسرار حياتهم .

والقاص والروائي شوقي كريم حسن، ولد على ضفاف نهر الغراف في الشطرة،في محافظة ذي قار، من أب (شرطي اول خيال)، وام كانت تتقن الخياطة، ونسج الحكايات وقول الشعر، يقول شوقي كريم على لسان والدته (صرخت احتجاجاً يوم تتويج الملك فيصل الثاني عام 1953)، ويقول والده انه ولد بعد فيضان بغداد عام 1954، في مدينة الثورة (الصدر) أسس اول فرقة مسرحية، وكتب اول تمثيلية اذاعية لبرنامج اسمه، مواهب على الطريق، وفي الثورة كما يقول شوقي كريم (حلمت بالخلاص الانساني)، وكان المسرح دراستي، وبعد سبع من السنوات اصدر مجموعة قصصية اولى (عندما يسقط الوشم عن وجه أمي) فأصبح مشهوراً، وانتمى الى اتحاد الادباء ، وكتبت عنه الدراسات والنقود، وتوالت القصص والروايات والمسرحيات حتى وصلت الى اكثر من عشرين، نذكر منها رواية (مدار اليم) مسرحية (ما لم يره الغريب كلكامش، رواية (شروكية) و(هتلية) وقصص (رباعيات العاشق) مسرحيات مثل (الوشوب الى القلب) و(مفازات) ومجموعة قصصية مشتركة (اصوات عالية)، فيما كتب اكثر من مئة مسلسل اذاعي، ونال جوائز عراقية وعربية، وكتب عشر مسلسلات تلفزيونية، وهو اول كاتب عراقي كتب لفناني اليمن والامارات وسوريا ومصر.

شاهد أيضاً

العراق يجذب السياح الدوليين.. كيف وجدوا “مهد الحضارة”؟

عندما جلس تومي دريسكيل، وهو صانع محتوى على منصة “يوتيوب” من هاواي، لتناول وجبة فطور …

error: Content is protected !!