الدين القومي والجيران

ثامر الهيمص

إشكالية علاقة الدين بالدولة مزمنة، وتضرب بجذورها من المعبد السومري والفرعوني، وصولاً إلى الدولة القومية اليهودية الحالية، مروراً بدور الدين في اوربا والاسلام واستخدام مذاهبية، وفقهية في ادارة الدولة وتسويقها شرعياً. إجمالاً كل دين يبدأ (عالمياً انسانياً) وخصوصاً الأديان التوحيدية الابراهيمية وهكذا حتى البوذية والزرادشتية والهندوسية لتمتد هذه العالمية إلى بواكير الايديولوجيات غير الدينية كالاشتراكيات واللبيراليات غرباً وشرقاً. فاليهودية كانت وبفضل رسلها وانبيائها متقدمة جداً على وثنيات زمانها، وبما أن المجتمعات كانت بنيتها التحتية هي القبلية، لم يكن سهلاً عليها اختراق هذه البنى الاجتماعية وخضوعها لديانة تبشيرية قبلية أخرى، وافق ذلك ازدهار دول مرتبطة بنظام ملكي متكلس، وصل لحد التأليه في العراق ومصر (دولة الفراعنة والبابليين). لذلك لم يكن في وسع اليهود اختراق محيطها الإقليمي وتكلست ليصبح التكلس ايديولوجية على يد فقائهم لاحقاً. ورافقتهم هذه النزعة الانغلاقية لتعكس حتى على التبشير بالدين اليهودي، وتعرضوا لهجرات تلاقحوا فيها مع افكار واساطير مجاورة بعد السبي البابلي، ليطوعوا التراث البابلي في كتبهم التي اضفوا عليها القداسة لاحقاً وكانت هذه العملية أي التلاقح المبكر، عززهم ثقافياً بصهره هذه التراثات البابلية، أو الفرعونية عنصراً لادعاء التفوق وهكذا صاحبهم عند انتشارهم عالمياً ليؤسسوا لعنصرية قومية تشعر اساساً للتفوق على كل المجتمعات والشعوب. ولذلك استعصى ولحد الان انصهارهم بالمجتمعات كونهم اقلية متماسكة بآليات المال وجمعه كادارات للديمومة والمقارعة وعدم التبشير الذي ما زال مستمرا بباقي الاديان الابراهيمية. ولذلك كان الدين القومي حامياً من جهة لأبنائه بداعي صفاء العنصر حد الادعاء بانهم نوعية بشرية خاصة. ليؤسسوا دولة اسرائيل مع علمانييهم الصهانية ذوي الجذور الاشتراكية والليبرالية معاً، أما المسيحية فقد ادعت بعض الدول ايضا سواء من الكنيسة الشرقية أو الغربية أنها راعية للمسيحية الوحيدة ومعروف لدينا الصراع بين الكنيستين الشرقية والغربية الكائيوليك والارثذوكس ويليها الصراع بين البروتستانت والكاثوليك الناجم عن انشقاق الأولى. وقد تمت ادعاءات وما زالت حتى الان مثلاً روسيا تدعي الرعاية للكنيسة الشرقية وروما ايطالياً وهكذا للكاثوليكية وانكلترا وامريكا راعية للبروتستانتية. فالدين كان وما زال فاعلاً رغم العلمنة وغرورها الشرقي والغربي أي بين الماركسية والليبرالية. لينفجر الصراع على شكل رؤى اجتماعية مساندة؛ فالغرب المسيحي الكاثوليكي والبروتستاني يدعي وحدة المسيحية كعنصر اساس تجمعه مع كندا واستراليا، مثلاً، رغم الجغرافية وأبعادها السياسية، بالإضافة لرابط المصالح التاريخية والجذر القومي. لذلك ليس غريباً أن تدعي تركيا بالإسلام العثماني والسعودية بالوهابية وإيران بالتشيع الاثنى عشري؛ حيث يتم استخدام المذاهب كاداة فعالة واحادية غالباً في رسم السياسات للدولة ذات الدين القومي. وكل مذهب يدعي أنه هو (صحيح الدين) اسوة باخواننا المسيحيين أو اليهود (علمانييهم ومتدينيهم)، وحتى البوذية التي لمسناها مؤخراً في مذبحة المسلمين (الروهينجا) في مينمار. ولكن الصراع القومي المذهبي يأخذ أبعاداً اضافية غالباً في الشرق الاوسط فهو أولاً واساساً ليس فقط أننا مجرد متخلفين نسعى للحاق بالغرب أو الشرق بل لان هذا الإقليم عربياً واسلامياً فيه أولاً العواصم التاريخية المؤسسة للمذاهب والاديان الابراهيمية الثلاث بمذاهبها ولها عواصمها بمراجعها أولاً وهي اسطنبول وما تعني إسلاميا وعثمانياً والقاهرة وما تمثله من تراث فرعوني واسلامي رائدا بالازهر. ومكة والمدينة وما تمثلان عربياً وإسلامياً وبغداد معروفة للقاصي والداني، حيث تأسست أغلب واهم المذاهب الاسلامية في حاضرتها لتنتشر إسلامياً. وتل أبيب عاصمة أول دولة قومية لليهود وارض الميعاد حولها كما يدعون. وقم ومركزها ودورها في التشيع الاثنى عشري والنجف فاتيكان التشيع. إذن نحن في بؤرة الصراع القومي الديني إقليمياً ودولياً، التي باتت هذه البؤرة رقماً صعباً في المعادلة الدولية واستراتيجياتها، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وغرور الحداثة الليبرالية، عندما تهشمت في حربين عالميين خلال القرن العشرين، والتي كانت تحت واجهات علمانية تماماً كالماركسية والليبرالية ما فسح المجال للاتجاه المعاكس بكل تجلياته وأهمها دولة الدين القومية، كما جسدتها اسرائيل والتحديات التي حصلت عربيا وإسلاميا. أما البعد الثاني بعد البعد الديني للصراع في الشرق الاوسط، هو الثروة النفطية والغازية والموقع الستراتيجي بقربه من الغرب أي على الساحل المقابل للبحر الابيض المتوسط، حيث عواصم القرار الدولي من موسكو إلى واشنطن وبكين، كدولة شرقية ونحن الاوسط. لذلك بين آونة وأخرى يهدد كيسنجر الخرف بقرب حرب العالم الثالثة، تحت رؤى ارض الميعاد من النيل للفرات كغطاء ايدلوجي لصراع المصالح والاستراتيجيات المتقاطعة. وكأنها حلاً لمصالح الدول المتنافسة بتقاسم المنطقة. إذن أين نحن كعراقيين على الأقل إقليمياً، ونحن (شرق اوسط مصغر)؟ وتعرضنا لأشرس الهجمات بدعم جيران المذاهب التي تخرجت من بغداد ونحن نحتضن ستة ائمة من المعصومين الاثنى عشر عليهم السلام، وأبو حنيفة وابن جنبل، ناهيك عن الانبياء من الموصل الى ميسان والكنائس العريقة بكل انحاء العراق، ويسبق كل هذا اول حضارة في سومر وبابل واشور.                                                                                                                                                                                                           كما لا يفوتنا أن الديانات القومية هي مذاهب ترجع لأديان سماوية فالكاثوليكية لم تلتزم بالإنجيل كما سلط الضوء مارتن لوثر باصلاحه الديني. وحتى اليهودية بانقساماتها ومدارسها (الغربية والشرقية) والاسلام بمذاهبه الخمسة. أننا كعراقيين بلداً وشعباً ساحة خصبة للتلاقح الفكري وتصديره نحن اسسنا الملعب، لكننا لم نلعب فيه بل يلعبون عندنا ونحن بين مشجع  ومراهن. فمن خلال التجارب التاريخية عموماً لاحظنا استخدام المذاهب التي انبثقت من الأديان بأنها تدعي صلاحها وبطلان غيرها كما حصل رغم دبلوماسية المصالح، فحتى العلمانية بجناحيها الروسي والاوروبي كانا يتصارعان في الساحة الالمانية ليس (لوجه الله) وهكذا جميع حروب المذاهب من الحروب الصليبية حتى مذبحة الروهينجا وليبيا وحرب اليمن ولبنان وسوريا والعراق اذ اختلط حابلها ونابلها، لكن بقاسم مشترك واحد هو مصلحة الدولة القومية المذهبية المجاورة. عندما ندرك هذه الحقائق جيداً لا يعني أننا لا بد أن نؤسس مذهباً بل فقهاً يتعلق بالمكاسب الوطنية لدرء الفساد السياسي والمالي وعزله ونخرج من تبعيات الجيران الفقهية القومية، فهم من حقهم عندما يرون أننا جاهزون فقط لتقدم مصالحهم على مصالحنا باسم المذهب القومي السائد عندهم وعلى مستوى من المقبولية الاجتماعية، والذا لا يعني بكل الاحوال سياسية وحتى الاقتصادية. يكون من الغباء رفض هذا العرض المغري جداً لهم لذلك علينا تطوير فقه علمي وعملي في العمل السياسي، ومنذ بدأت بواكيره عبر توجهات عامة وفجر يلوح عبر المبادئ العامة للحوزة والتوجه العملي الميداني للتيارين الصدري والمدني وبتأييد من يدعي الوطنية الحقة من القوى الأخرى. وهذا ممكن جداً أي التوحد عراقياً عابرين للمذاهب القومية الداخلية والخارجية وكسر اطواق المذاهب المغلقة والمباشرة، بتضميد جراحنا ومصالحة حقيقية مجتمعية بتدوير حواف المذهيبات من خلال اللقاءات غير المسيسة ونفعلها. والله خير الحافظين.

 

شاهد أيضاً

القوة الناعمة للعلاقات العامة الدوليَّة 

د. محمد وليد صالح  كاتب عراقي القدرة على الاستقطاب والإقناع المعتمدة على أساليب قوامها نشر الأفكار …

error: Content is protected !!