نبرفال.. الغامض والأرمل الحزين

قيس مجيد المولى

قدم الشعر الفرنسي العديد من شعرائه الذين طرقوا أبوابا متعددة بعضهم ضمن تلك الازدواجية المتناقضة والبعض الآخر من خلال إعادة التأملَ في الماضي، ومنهم من وظف المراثي الأغريقية واللاتينية ومنهم من لجأ الى مسخ الواقع بالسخرية ومنهم من ارتكز على الطبيعة لمزاوجة موجوداته الشعرية.

ولكن جيراد دو نبرفال – والذي أصيب بنوبات جنون متكررة – جعل من تجربة القلق النفسي خيارا للتدفق في الحياة الواقعية فهي حياة تختلط بين الأوهام وقدرة الإدراك في مسعى للبحث عن مضامين الذات سواء تلك الذات الشخصية أو الذات الإلهية وبُعدها الذي يتصل بالموت والحياة والشك واليقين والرضوخ للمشيئة أو محاولة تجاوزها.

والشيء اللافت للإنتباه لدى قلق نبرفال أن قلقه هذا لم يجرده من النظر الى التجربة الشعرية بكل أبعادها على مستوى اللغة الجديدة وعلى مستوى التعامل مع الرمز والموروث أي أنه كان يملك وعيا حقيقيا بذلك القلق النفسي، ولكنه من جهة أخرى رضخ له كي يتمتع بمؤثراته ونتائجه على قريحته الشعرية ولتؤشر تجربته تجربة شعرية على مستوى عال من الدقة في كيفية الإفادة من أي من تلك الإختلالات النفسية، ولاشك أن قراءة “أحلام متنزه وحيد” لروسو كانت لها الأثر في صياغة توجهات نبرفال نحو المضامين الشعرية والتي تلتقي وذلك الإضطراب النفسي.

ولكي يصل لمبتغاه فقد أطلق العنان لشكل تجربته تلك وكتب ما يريد من تلك التجربة النفسية بين الأعوام (1843-1854).

لقد شعر نبرفال بوصفه لنفسه تجاه العالم بأنه “المتروك وبأنه المهمل” فلا ملاذ إلا بالأشياء المنطفئة وبشمس الأحزان السوداء وقد قدم في “المنبوذ” ذلك الجمع بينَ لُغتين متوازيتين في رؤيا المجهول فأحلامه التي عبر عنها رآها بأنها غريبة ومؤلمة:

إجتزت نهر الجحيم منتصرا مرتين

وأنا أعزف

من حين لآخر

على قيثارة أورفية

أنا الغامض الأرمل الحزين،

لقد انغمر نبرفال في نصوصه غير المقيدة التي خلت من الإنطباعات الخارجية عكس آخرين من الشعراء الفرنسيين كون نصوصه احتفظت بهيئتها الخاصة، وهو يبدو أمرا طبيعيا، وذلك لإختلاف نقاط الإتصال الشعري بين شاعر وآخر ضمن اختلاف المراحل الزمنية التي تعكس ذلك الإختلاف البنيوي في متطلبات صياغة الحدث النفسي الشعري ضمن إفرازات البيئة الفكرية وقدرات الشاعر على إحداث النقلات المطلوبة للتناسق والإنسجام والتغريب المطلوب في كلية وحدة النص.

إن صور المجهول في نصوصه كثيرة ومجهوله هذا يضيف بعدا لعدم استقراره وعدم استقراره معناه صحة مرضه النفسي الذي وجد به وسيلة للوصول الى أبعد أبعاد ممكنة لعالم شعري غائب يتجدد غيابه في طريق رحلته الطويلة التي جمعت كما ذكرنا ألمه النفسي المدرك وطقوسه الميثيولوجية سواء بإستعارة رمزية ما أو مكانا لحدث ما ضمن رغبة شعرية هدفها الإمساك بأي من المفاصل التي تديم الرغبة في إبقاء توتره النفسي على أشده:

في الليل القبر

أنت الذي واسيتني

أعد لي البوزيليب وبحر إيطاليا

والوردة التي ينشرح لها قلبي المفطور

والكرم المعرش يعانق العنقود مع الزهرة

أن نبرفال (المتروك أو المنبوذ) وفي ذلك الكم من كتاباته الجنائزية كتب حياته على “شاهدة قبر” إذ ظل ممسكا الى لحظاته الأخيرة بذلك الفيض الروحي من قلقة النفسي المنتج لينتقل الى لغة أخرى أكثر وضوحا لكنها أكثر صدقا وإيلاما في التعبير عن حاجاته وتوقعه لمتطلبات رحتله الطويلة التي كانت بين اللامبالاة والحقيقة الغامضة وهو السؤال المزدوج لحقيقة الوجود البشري في هذه الحياة:

كان الموت عندئذ رجاه أن ينتظر

ريثما يضع النقطة الأخيرة في قصيدته

ثم دون أن ينفعل،

ذهب ليتمدد في التابوت البارد

حين كان جسده يرتجف

رحل

وهو يردد

لماذا أتيت.

شاهد أيضاً

أفضل فيلم.. أوبنهايمر يكتسح الأوسكار ويفوز بـ7 جوائز

اكتسح فيلم أوبنهايمر جوائز الأوسكار لهذا العام بفوزه بسبع جوائز من أصل 13 جائزة رشح …

error: Content is protected !!