
د. مهند الخزرجي
تعد الطائفية السياسية من أبرز العوامل التي تقوض استقرار المجتمعات وتعيق تطورها نحو بناء دولة قوية تقوم على أسس المواطنة والعدالة. وعلى الرغم من أن التنوع الطائفي والمذهبي يمكن أن يكون مصدر غنى ثقافي واجتماعي، إلا أن تحوّله إلى أداة للفرقة والصراع يؤدي إلى نتائج مدمرة تطال النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة، كما تظهر التجارب الواقعية في كل من العراق ولبنان.
وتعد المحاصصة الطائفية من أبرز أشكال هذا التوظيف للانقسام، وما ينجم عنه من غياب المهنية والكفاءة في رفد مؤسسات الدولة بإدارات ناجعة ومتمكّنة، حيث تقسم المناصب والمواقع بناءً على الانتماءات، لا على أساس الكفاءة. ففي لبنان، تم تثبيت هذا النظام رسميًا بعد “اتفاق الطائف” عام 1989، مما جعل الانتماء الطائفي شرطًا ضمنيًا للتوظيف السياسي والإداري. وفي العراق، أُعيد إنتاج هذا النموذج بعد عام 2003 في ظل نظام المحاصصة الذي عزز الانقسامات وكرّس الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
إن سعي الأحزاب وبعض الكيانات السياسية إلى بناء الولاءات على أسس طائفية يسهم في تفكك الهويات الوطنية. وقد شهد العراق بعد عام 2006 تصاعدًا غير مسبوق في العنف الطائفي، أدى إلى موجات من التهجير القسري والانقسام الجغرافي على أساس المذهب. كما أدت النزاعات الطائفية في لبنان، منذ الحرب الأهلية (1975–1990) وحتى أحداث مايو 2008، إلى صدامات مسلحة وتعميق الانقسام بين المكونات. كل ذلك أسهم في تفكك النسيج الاجتماعي وأضعف التعايش السلمي.
وهذه الأمثلة تمثّل دليلًا واضحًا على تقويض فعالية الدولة وفقدان المؤسسات حيادها. ففي العراق، يُنظر إلى أغلب الوزارات بوصفها “حصصًا” لجهات سياسية وطائفية، مما أدى إلى فساد إداري وضعف في الأداء العام. وفي لبنان، أدى هذا النظام إلى شلل سياسي متكرّر، تجلى خلال السنوات الماضية في العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية أو تشكيل حكومة، مما انعكس سلبًا على الأداء الاقتصادي والخدمات الأساسية التي يفترض بالدولة أن تضطلع بها.
ولعلّ ما مر به العراق شكل عائقًا كبيرًا أمام التنمية وجذب الاستثمارات، لما تسببه الطائفية من انقسامات وصراعات أفقدت الدولة استقرارها، لا سيما خلال موجات العنف الطائفي وسيطرة قوى إرهابية على بعض المدن، ما أدى إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
هل استفاد العراق من تجربة الطائفية في تبنّي سياسة جديدة ؟
حتى الآن، يمكن القول إن العراق لم يستفد بشكل فعّال وكافٍ من تجربة الطائفية في تبنّي سياسة جديدة تتجاوزها، رغم مرور أكثر من 20 عامًا على التحول السياسي بعد عام 2003. ومن أبرز الدلائل على ذلك استمرار نظام المحاصصة الطائفية، حيث ما زالت المناصب العليا (الرئاسات الثلاث والوزارات السيادية) توزع وفق الانتماء الطائفي. كما يغيب الإصلاح الدستوري والسياسي الحقيقي، رغم الاحتجاجات الشعبية المتكررة، لا سيما في تظاهرات تشرين 2019 التي طالبت بإسقاط نظام المحاصصة والطائفية السياسية، إلا أن الاستجابة بقيت محدودة وغالبًا شكلية. كذلك فإن الفساد المستشري الناتج عن الطائفية، وما أدى إليه من تقاسم للموارد والنفوذ بين الكتل السياسية، خلق بيئة خصبة للفساد وأضعف مؤسسات الدولة، وفاقم انعدام الثقة المجتمعية.
وعلى الرغم من كل ذلك، هناك مؤشرات على التغيير، وإن كانت بطيئة. من أبرز هذه المؤشرات تزايد الخطاب الوطني في أوساط الشباب والمجتمع المدني، إضافة إلى نتائج الانتخابات الأخيرة عام 2021، التي شهدت عزوفًا ملحوظًا عن التصويت للأحزاب الطائفية التقليدية، رغم أن النتائج لم تُحدث تغييرًا جذريًا. كما بدأت تظهر بعض المبادرات السياسية التي تسعى لتشكيل كيانات عابرة للطوائف، لكنها لا تزال محدودة التأثير.
ختاما.. التجارب المؤلمة التي مر بها العراق ولبنان، وللأسف ما تشهده سوريا اليوم من تصاعد في الخطاب الطائفي، تؤكد أن تجاوز الطائفية لم يعد خيارًا نظريًا، بل ضرورة استراتيجية لا مفر منها. ويتطلب ذلك إصلاحًا سياسيًا جذريًا يبدأ بتفكيك نظام المحاصصة، وتعزيز مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة والمواطنة. كما لا بد من الاستثمار في التعليم والإعلام لتعزيز ثقافة التعايش ونبذ الكراهية. فلا يمكن بناء دولة قوية دون دولة عادلة، ولا عدالة دون مساواة حقيقية أمام القانون، بعيدًا عن الاعتبارات الطائفية.