أليس بايي: “الفنّانة الثائرة المتجدّدة”‎

صوتها/ هن

أليس بايي (Alice Bailly)، هي فنّانة تشكيليّة سويسريّة، كانت أوّل الفنّانات ريادة ومشاركة في بلورة التصوّرات الفكريّة والجماليّة لحركتيْن فنّيتيْن ثوريّتيْن في بداية القرن العشرين، وهما: المستقبليّة (Futurismo) والتكعيبيّة (Cubisme).

وُلِدت أليس بايي لعائلة سويسريّة من الطبقة الوسطى، في 25 فيفري 1872، بمدينة جينيف (Genève). ودرست في البداية، اللغة الألمانيّة، لكنّها ظلّت تنتظر فرصة سانحة لدخول معهد للفنون الجميلة لافتتانها الشديد بالرسم. وفي عام 1891، حقّقت “أليس” أوّل خطواتها في العالم الّذي حلمت به منذ طفولتها، عالم الضوء والخطوط والألوان، فانقطعت عن دراسة اللغة الألمانيّة، وقامت بالترسيم لحضور دروس الرسم بمدرسة في جينيف، مخصّصة للفتيات، وتابعة لمعهد الفنون الجميلة الّذي كان يفتح أبوابه للذكور فقط في ذلك الوقت.

 

 

بعد أربع سنوات، أتمّت “أليس” تعليمها بمدرسة الفتيات، وشرعت في رسم أولى لوحاتها، لتقيم أوّل معرض لها في عام 1900. وكانت أعمالها الفنّية الأولى متأثّرة بمدرسة ما بعد الانطباعيّة، لتوليفها بين عناصر ثلاث مهمّة: رسم المظهر الخارجي للأشكال الطبيعيّة وتبيان الانطباعات الذاتيّة للفنّان عن الموضوع المرسوم على اللوحة، مع التركيز على نقاء الخطّ واللون والشكل. لتكون أعمالها الأولى تحت تأثير خالص لرسّامين مثل الهولندي فان غوغ (Vincent Van Gogh) والفرنسي بول غوغان (Paul Gauguin) والسويسري كونو أميات (Cuno Amiet).

 

في عام 1904، سافرت أليس بايي إلى باريس، لتلتحق بمجموعة الفنّانين السويسريّين المقيمين في العاصمة الفرنسيّة، في شارع “Poissonade” الباريسي الشهير باحتضانه لعدد مهول من الفنّانين الفرنسيّين وغير الفرنسيّين من السويسريّين على وجه الخصوص، مثل غوستاف بوشاي (Gustave Buchet) وفيليكس فالوتون (Félix Valotton) ولويز كاترين براسلو (Louise Catherine Breslau) وإرنست بييلي (Ernest Bièler)، الّذين شاركت مع أغلبهم في “معرض الفنّانين المستقلّين” عام 1909. وقد شهدت هذه الفترة اطّلاعها على التيّار الوحشي في الفنّ (Fauvisme)، وتأثّرها بأعمال الفنّانيْن الفرنسيّين هنري ماتيس (Henri Matisse) وجورج براك (Georges Braque) متزعّمي هذا التيّار، وذلك من خلال استعمالها الألوان النقيّة والصارخة والحيّة وتوظيف التباين اللوني بطريقة مستفزّة لعين المشاهد، والجرأة في استعمال الألوان والبحث الدائب عن خلق توليفات لونيّة جديدة. وقد تجلّى هذا التأثّر في لوحتها “الحديقة الورديّة” (Le jardin rose)، الّتي رسمتها في عام 1907.

في العام نفسه، تمّ عرض أعمال أليس بايي، مع بقيّة أعمال الفنّانين الوحشيّين في “صالون الخريف” (Salon d’automne) الشهير، الّذي تأسّس في عام 1905، وأصبح منذ ذلك الوقت معرضًا سنويًّا يستقطب أعظم رسّامي العالم ونحّاتيه من مختلف التيّارات الفنّية. في هذا المعرض، لاقت أعمالها صدى واسعًا، وهو ما ساهم في توطّد صداقتها بفنّانين كبار، مثل الرسّام السريالي الفرنسي فرانسيس بيكابيا (Francis Picabia)، لكنّ الحدث المهمّ هو بالنسبة إليها كان انتباهها لولادة حركة فنّية جديدة في صالون الخريف، المدرسة التكعيبيّة، واطّلعت على أولى أعمالها الفنّية، وقد توطّدت علاقتها ببعض روّاد هذا التيّار، مثل الفنّان الإسباني خوان غريس (Juan Gris) والفنّانة ماري لورونسان (Marie Laurencin)، إلخ… ليعلن هذا المعرض عن ولادة جديدة لأليس بايي، مرحلة التجربة التكعيبيّة.

 

في هذا الزخم الّذي شهده الفنّ التشكيلي في بداية القرن العشرين، أوجدت “أليس” أسلوبها الفريد، بعد أن عايشت أغلب التيّارات الفنّية وتأثّرت بها، لتؤثّر فيها فيما بعد. فإذا كان التيّار الوحشي ثورة على مستوى اللون، فإنّ التيّار التكعيبي كان ثورة على مستوى الشكل، من خلال توظيف الأشكال الهندسيّة في رسم المشاهد الطبيعيّة والحضريّة والبورتريهات، وذلك عبر تفكيك عناصر المشهد المرسوم إلى أشكال هندسيّة وإعادة تركيبها وفق نظام خاصّ ودقيق، وهو ما استغلّته أليس بايي لتحرير مخيّلتها وإضفاء مزيد من التجريد والرمزيّة على موضوعات لوحاتها من خلال تثوير الشكل بتقنيات التيّار التكعيبي، لكنّها حافظت في الآن ذاته على تقنيات الأسلوب الوحشي في اللون، فجاءت أعمالها تأليفًا بين تيّاريْن فنّيين بارزيْن، وهي تجربة فريدة في ذلك الوقت، خاضتها أليس مع قلّة الفنّانين، أهمّهم جورج براك.

 

 

ولعلّ توصيف الشاعر أبولينير للوحتها “La femme à l’éventail” أثناء عرضها في “صالون الفنّانين المستقلّين” عام 1913، دليل واضح على فرادة أسلوب “أليس”، إذ قال عنها: “لقد جدّدت الآنسة بايي رؤيتها بالكامل، فالتكعيبيّة المختلفة والمخاتلة عندها، هي إحدى التحديثات المهمّة في هذا المعرض”.

 

في عام 1913، اقتربت أليس بايي من تيّار “المستقبليّة”، الّذي كان قد بدأ يتبلور في إيطاليا، وتمحورت أفكاره حول القطع مع التقاليد الجماليّة الكلاسيكيّة، ومواكبة تطوّرات العصر وتحوّلاته، عصر السرعة والتألية والتوسّع الحضري الغير مسبوق؛ لترسم في السنة نفسها، لوحتها “Fantaisie équestre de la dame rose”.

 

ومع بداية الحرب العالميّة الأولى في 1914، غادرت أليس باريس كي تعود إلى موطنها سويسرا. وفي هذه الفترة، كانت على اتّصال دائم بحلقة الفنّانين الدادائيّين في مدينة زوريخ: جين آرب (Jean Arp) وصوفيا تايبر (Sophie Taeuber) وتريستان زارا (Tristan Tzara)، وواكبت تشكيل ملامح الدادائيّة (Dada) وبياناتها الصاخبة، المندّدة بالجنون الإنساني الّذي أشعل العالم بحرب شعواء. وقد استلهمت أليس من هذه الحركة الكثير، خاصّة في لوحتها “الأغنية الأولى”، الّتي فرغت من رسمها في عام 1918.

 

وواصلت أليس في هذه الفترة، بحثها الجادّ في التكعيبيّة والمستقبليّة، فاتّجهت إلى تجربة التشكيل باستعمال النسيج، وأنتجت لوحات هامّة، كان الصوف مادّتها الأساسيّة، منها “L’Ami Spiess” و”Pierrot et Colombine” في عام 1918، و” Les rythmiciennes” في عام 1919.

 

 

بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى، واصلت إنتاجها الفنّي المكثّف والمتميّز بالتجريب والبحث العميق، وهو ما جعل الدعوات تتهاطل عليها من معارض فنّية كبرى داخل سويسرا وخارجها، وأصبحت لها مكانة بارزة لتجربتها الثريّة الّتي عرفت حركيّة كبرى وهوسًا بالانفتاح على مختلف التيّارات الفنّية والاستلهام منها، لإنتاج أعمالٍ فريدة ذات عمق فنّي وفكريٍّ كبيريْن، ساهمت في إضافة كبرى للمشهد الفنّي في فترة ما بين الحربين.

شاهد أيضاً

اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة

اقامت منظمة سايا لحقوق الأنسان والديمقراطية وبالتعاون مع وحدة تمكين المرأة في سامراء بندوة حوارية …

error: Content is protected !!