“صانع الحلوى”: وحشية الواقع ومرارة السخرية

زياد مخلوف

فقط أخبرهم بالحقيقة وسيتهمونك بكتابة الكوميديا السوداء. بهذه المقولة يستهل الكاتب أزهر جرجيس (مواليد بغداد 1973) مجموعته القصصية «صانع الحلوى» الصادرة أخيراً عن منشورات المتوسط/ ميلان، جاعلاً منها اللبنة الأساس في بناء نصّه الحكائي المثير.

يتضمن الكتاب أربعاً وعشرين قصة، يعيد فيها جرجيس صياغة حكايا الموت العراقي برمزية عالية لم نعد نقرأ مثلها منذ زمن بعيد. ولعل الكاتب وهو يروي حكاياته بين دفتي هذا الكتاب قد بدا عليه التأثر الواضح بالأدب اللاتيني، حيث الغرائبية والخيال اللامحدود مع النهايات المباغتة والسخرية اللاذعة. لكن قارئ مجموعة «صانع الحلوى» سيجد أن السخرية والتهكم لم يكونا مقصودين لذاتيهما، بل إن الكاتب جعلهما مرتبطين بسياق إنتاج الفكرة وأخضعهما إلى استراتيجيات جمالية منضبطة خالية من الحشو والإسفاف.

إنّ مقولة الاستهلال الآنفة لم تكن مجرد اقتباس لإحدى مقولات الكاتب الأمريكي تشارلز ويلفورد (1919ـ 1988) قدر ما كانت حقيقة تشخص بين سطر وسطر من قصص المجموعة. الحقيقة التي لم تعد خافية لمتتبع حكايات الموت العراقي المجاني، والمتوفرة بسخاء في الشريط الإخباري اليومي منذ اجتياح أمريكا لبغداد 2003 وسقوط نظام البعث هناك. غير أنّ جرجيس الذي عاش الحكاية ـ على ما يبدو ـ بتفاصيلها في مدينته بغداد، ونجا منها بضربة من ضربات الحظ النادرة، كان قد تلاعب بالمقادير ليقدّمها لنا على هيئة قطع حلوى مرّة تشبه العسل المخلوط بالعلقم.

ففي قصة الكتاب الرئيسة «صانع الحلوى» يحمل البطل جمجمة أبيه ويفر نحو هولندا من أجل أن يشارك في مسابقة لسينما الشباب هناك «لقد قرر حنّا أن يصنع من حطام أبيه فناً، فأطلق ساقيه للريح، وتساقطت تحت قدميه الحدود مثل قطع الدومينو». لكنه يفشل إذ تقرر اللجنة حجب فيلمه بداعي أن الهولنديين شعب سعيد لا يحبذ قصص الموت، فيقرر حينذاك أن يطعمهم حلوى الموت لينشر عدوى الحزن في ما بينهم، لكنه يتفاجأ بأنهم يصبحون أكثر سعادة من ذي قبل! «الآن عرفت سرّك أيتها الحلوى العظيمة».

تمتاز قصص جرجيس بالفانتازيا الملتبسة كثيراً بالواقع، وهذا لا شك يضمن لها فردانيتها وسط المشهد السردي العربي المعاصر. ففي قصة «حانة المشرق» يفقد أحد أبطاله ظلّه ليأخذ القارئ نحو عالم فانتازي فريد، لا يخلو من فلسفة الأديان ورفض فكرة التشدد، لينتهي به الأمر جثة هامدة بين يدي كلبٍ رحيم، فيباغت القارئ بقوله: «أراكم في جهنم».

يشتغل جرجيس على منطقة رمادية في السرد قلما تطالها الأقلام العربية، لاسيما الشبابية منها، بعد أن طغت الواقعية المحضة والخيال المحض على جلّ أعمالهم. لست هنا في سياق المقارنة بالطبع فلكل شيخ طريقته، لكن ما يدعو إلى الدهشة في قصص هذه المجموعة «صانع الحلوى» هو ذلك الفاصل اللامرئي بين الواقع والخيال، حيث ما يلبث القارئ أن يمسك الخيط ليقرر أن الحكاية ما هي إلا سرد واقعة، ربما مرّ بها الكاتب نفسه، وأنها ليست أكثر من قصة لاجئ يستجير بعجوز تملك كوخاً في طرف الغابة، حتى يباغته قزمٌ يقفز من برميل مليء ببول الحمير «وضعت الفانوس جانباً، وتناولت ذراعاً حديدياً كان ملقى على جنب، حشرته في غطاء البرميل، وفتحته، فقفز منه قزم عارٍ».

يستحضر الكاتب في قصصه ههنا المفارقة التي يمرّ بها الإنسان العراقي عبر أنماط وشخصيات تتحرك بين فضائين، هما فضاء الوطن وفضاء المنفى، أو المهجر كما يحلو للكثير تسميته. الـ»هنا» المتمثلة بالمنفى الذي يعيشه الكاتب، والـ»هناك» التي تعني الوطن المصاب بحمى العنف المزمن والموت المجاني، هذه الثنائية نجدها حاضرة بوضوح في قصة «حامل الحقيبة» التي تحكي حياة مهاجر مدمن على سماع أخبار القتل في بلده، ما يجعله في وضع نفسي مأزوم، فنراه يصرخ واقفاً تحت الماء: «لماذا القتل لا غير؟ لماذا يا أولاد القحبة؟». لكنه حين يحمل حقيبته ويركب الحافلة ليطوف المدينة طولاً وعرضاً، يخاطب جليسته، بلغة تهكمية واضحة، بإنه لا يطيق هذه الـ»هنا» الصامتة التي لا موت فيها «أنا أيتها السيدة الباردة أبحث عن أرض يقتلني فيها أخي، ثم يمزق جسدي ويلوك أحشائي مثل قط جائع».

يظهر جلياً أنّ جرجيس يبني نصّه السردي بشكل أساسي على التهكم والسخرية، السخرية من القدر الذي وضع أبناء جلدته بين فكّي الحرب التي لا يُراد لها أن تنتهي في بلاد ما بين النهرين. فمنذ تأسيس العراق الحديث 1921 وهو يشهد الانقلابات والحروب، التي يدفع ثمنها الشعب العراقي موتاً وتنكيلاً. ففي قصة «حفلة السحل الصاخبة» يستعرض جرجيس وبطريقة سينمائية ساخرة وساحرة ما جرى في انقلاب 1958 وما شهدته بغداد من قتل وسحل وتعليق في الساحات العامة «كانت أمي تنطرني خلف باب الدار كل يوم أملاً بعودتي، لكنني لم أعد. كيف للمرء أن يترك حفلات السحل تفوته؟! كنت أبيع إجازتي الدورية للجنود كي أبقى على الساتر بانتظار جثة، أشعل النار فيها ثم أسحلها مثل خشبة متفحمة». هكذا يروي جرجيس ما حدث في ذلك الانقلاب بلغة تقريرية بادئ الأمر، ليفاجأنا بعدئذ بانعطافة فانتازية تنتهي بجواب الأم لسؤال إحدى القطط المستطرقة بـ»إن غليل العراقيين لا يشفيه غير السحل».

لقد ورد ذكر الحرب في قصص مجموعة «صانع الحلوى» بشكل متواتر، وكأنّ الكاتب يريد أن يقول صارخاً بوجه العالم: ما مرّ عام والعراق ليس فيه «حرب»! عارضاً بذلك مقدار الموت والإذلال والعنف الذي يتعرّض له الإنسان هناك، بطريقة لا تخلو من المتعة السردية التي عُرف بها جرجيس. ولعل هذا يتضح جليّاً من خلال قصة «الكوخ الهنغاري» حيث يقول على لسان بطله «الهاربون من الحرب مثيرون للشفقة»، وعلى لسان قزم النبيذ «حين تشتعل الحرب في طرف من هذه الأرض، فإن سوق التسلية يصبح رائجاً في الطرف الآخر»، الذي يجيبه في النهاية عن موعد استحالته إلى نبيذ للعفاريت «ما يزال الوقت مبكراً يا زميلي، فأنا قد هربت من حرب تشرين وما أزال لم أختمر بعد». أما في قصة «يـــــوم أسود» فيستـــعرض جرجيس حكاية حرب وقعت مؤخراً على رؤوس العراقيين.

كان أحد أبطالها صبي الحلاقة، فؤاد الذي نجا في ما مضى من قبضة «المعلّم» الدنيء الذي أراد اغتصابه داخل صالون الحلاقة، لينتهي به الأمر تحت رحمة السيّاف ذي اللثام الأسود «بعد ثلاثة عشر عاماً عصفت بالمدينة ريح موت عاتية، إذ هجمت عليها عصابة تطلق اللحى وتكره الاستحمام. كانوا يكبّرون كثيراً كلما قتلوا شيخاً أو أجهزوا على رضيع أو باعوا فتاة في سوق النخاسة».

لا تنتهي الحرب في حكايات جرجيس كما لا تنتهي لديه فانتازيا الموت ورائحة الجثث والتعذيب الجسدي والفقر والجوع والزيف الاجتماعي والمتاجرة بالدين وغيرها من موضوعات المجموعة، لذا فعلى قارئ «صانع الحلوى» ألا يفزع حين يصطدم برأسٍ بشريّ متدحرج بين السطور، أو يتعثر بساق مقطوعة، أو تهجم عليه حفنة وطاويط سوداء، أو يصرخ بوجهه جلّاد ساديّ يشفيه إطفاء السجائر في أجساد ضحاياه!

تحيلنا مجموعة «صانع الحلوى» في النهاية إلى خلاصة مفادها أن ليس من شاهد على حقيقة ما جرى في العراق من حرب ودمار وقتل وعنف أوضح من حكايات الضحايا التي ما زال الكثير منها لم يُكتب بعد، وأنّ ليس من طريقة لتمرير هذه الحكايا الى العالم أفضل من السخرية السوداء الممزوجة بآلام ضحاياها.

شاهد أيضاً

حوارٌ فاضح

الاء الصوفي اعذرني على ما فعلت ….لم تكن في خاطري أذيتك….لم أعد كسابق عهدي ،تغيرت …

error: Content is protected !!