
سوسن الجزراوي
اكاد اجزم ان من اكثر الاشياء التي ترافق يقظة الانسان ، هي احلامه ! قد يبدو للوهلة الاولى ان ما اقوله لهو ضرب من الازدواجية الفكرية التي تجعل الحلم رفيقاً اثيراً للواقع ، الا ان اغلب ارتكازات هذا ( الواقع ) ، انما كانت ضاربة جذورها في اعماق الارض الحقيقية التي نحياها جميعاً .
وانطلاقاً من هذا المفهوم ربما ، ولدت نظرية الكاتب الكبير گابرييل گارسيا ماركيز ، والتي تقول : ان الانسان لن يتوقف عن الحلم عندما يصبح عجوزاً ، بل هو يصبح ( عجوزا ) حين يتوقف عن الحلم !
عشرة كلمات بسيطة اختزل فيها الكاتب الكولومبي سنوات طويلة جدا من حيواتنا التي نعيشها ، متنقلين بين واقع نرفض بعضا منه ، واحلام تجعلنا متمسكين بجنونها وما يحيط بها من ( فانتازيا ) ، دون ادراك منا لما ستؤول اليه الحال فيما بعد ، بمعنى اننا نقبض على احلامنا بيدينا ونعيش تفاصيلها ونتأثر بها ، ونرى انها انعكاسات لواقع هو في حقيقة الامر ، لايطابق ما يراود خيالاتنا .
وفي نظرة متبحرة لما اراده ماركيز من هذه العبارة ، فاننا نقف على اعتاب ابواب واسعة من الاختيارات بين ان نقنع بما لدينا وماوصلنا اليه في رحلتنا ، او ان نواصل البحث والنظر نحو آفاق بعيدة بعيدة جداً فيها صعوبات وتحديات واصرار يأخذنا الى حيوات اكثر اشراقاً ربما .
وكي لانضيع في بوتقة القبول بالواقع حسب ، يهرول الكثير نحو احلامه ، في محاولات للوصول الى ( اكسير ) الحياة الازلية ، نعم ، فالطموح هو مايجعلنا نغادر الواقع ونلجئ الى الاحلام اي كانت ، الحلم بان نبقى شباب ، الحلم بان نحقق مافاتنا ، الحلم بان نكسر رتابة اليأس لنزرع في بساتينها القاحلة ، ورود فوّاحة ، الحلم بأن نتحدى احزاننا وماخلفته سنوات مضت دون جدوى . وماركيز الحالم ، كان مدركاً لشغفه الكبير ومصراً على تحقيق حلمه بأن يُنتج رواية عميقة المعنى رصينة ، تؤثر في القارئ ، وهكذا اعتكف شهوراً طويلة وصلت الى 18 شهرا ، غير مبال بما قد يخسره من الواقع المادي ، فجاءت رائعته الكبيرة ( مئة عام من العزلة ) عام 1967 ، كواحدة من اقوى الروايات ، بل ملحمة جسدت واقع الانسان الكولومبي بسردية مفعمة بالاحاسيس التي لم تختزل اي تفصيل من تفاصيل الحياة الذي سعى ( ماركيز ) لنقلها بعمق قلّ نظيره .
وماركيز الحالم ، كان مدركاً لشغفه الكبير ومصراً على تحقيق حلمه بأن يُنتج رواية عميقة المعنى رصينة ، تؤثر في القارئ ، وهكذا اعتكف شهوراً طويلة وصلت الى 18 شهرا ، غير مبال بما قد يخسره من الواقع المادي ، فجاءت رائعته الكبيرة ( مئة عام من العزلة ) عام 1967 ، كواحدة من اقوى الروايات .
والمعروف عن غارسيا ماركيز ، انه كان مؤمنا بالأحلام لانه يراها تشكل حياته كلها ، والمصدر الحقيقي لابداعاته الفكرية ، اذ تميز هذا العمل الادبي الكبير بأسلوب الواقعية الساحرة ما جعله طفرة أدبية في أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات .
ولم تتوقف احلام هذا الكاتب العملاق عند ( عزلة المئة عام ) ، بل تجسدت ايضا في روايته المبهرة الساحرة ( الحب في زمن الكوليرا ) ، تحدى فيها ماركيز كل القيم والاعراف والمألوف بحلم كبير بدأ في سن الشباب ولم يتوقف حتى سن الكهولة ، اذ بقيت جذوة الحب مشتعلة في داخل ( فلورنتينو و اوفيليا ) ، وظل حلمهما باللقاء متحدياً كل المراحل العمرية ، متمرداً على العقبات الي اجهزت على سنوات شبابهما ، حتى عادا للقاء الكبير الذي طالما كان حلمهما وبالتحديد حلم فلورنتينو .
ولان الاحلام وفق نظرية ( ماركيز ) ، هي القدرة الهائلة على العطاء والتواصل وعدم الاستسلام ، فقد تحدى اوجاعه ومرضه ، ولم تتوقف تلك الطموحات بانتاج روايات نجحت في الوصول الى اعلى مستويات التقييم الفكري الادبي ، حاملة في ثناياها وبين اسطرها الوجه الناصع الجرئ في طروحاته الادبية للواقع المتمسك بالحلم ، وهذا هو ديدن العظماء الذين يخلدهم التاريخ ، اذ لا يكفي ان نتوقف عند محطة او محطتان او ثلاثة لنثبت اننا نجحنا واننا وصلنا الى اهدافنا ، فالحياة لاتتوقف ولا تستقيم دروبها مالم يكونوا سالكيها محملين باحلام كبيرة تخترق الواقع وتحول احزانه الى طموحات جميلة ، وهكذا فعل ماركيز ، فقد تمسّك رغم مرضه ، على قدرته على الإبداع وصناعة الأحلام الجديرة بالتحقق .